في نشأة وتطور وظائف الدولة د - عبد المولى المسعيد

في نشأة وتطور وظائف الدولة
                                                                                 د – عبد المولى المسعيد
أستاذ باحث بالكلية متعددة التخصصات بني ملال
تعد الدولة الكيان المعنوي الذي اهتدى الفكر الإنساني بعد مراحل من التطور والتجمع إلى تصوره وخلقه لكي ينيط به اختصاصات ومقومات الحكم،حتى لا يرتبط هذا الأخير ويمتزج  بشخص الحاكم.
والدولة بهذا المعنى تعد أيضا المؤسسة التي تملك السلطة العامة وتميزها عن أشخاص الحاكمين.
ولم تستقر تعار يف المفكرين على مفهوم موحد للدولة حيث يتأثر كل تعريف بنظرية وسياقات الزمان والمكان المرتبطة بنشأة المفكر والأوضاع السائدة في عهده.
والدولة في بداياتها الأولى تعد نتاج تعاقد إرادي وحربين مجموعة بشرية ما من أجل الانتقال من حالة الطبيعة المحكومة بقوانين الغلبة والصراع إلى حالة التجمع المدني في إطار دولة تضمن تحقيق الأمن والسلام وتقتضي خضوع إرادات هذه المجموعة البشرية لسلطة الحاكم.
وقد مرت نشأة الدولة بمراحل يمكن ذكر أهما في المجتمعات البدائية الأولى ثم الدول والإمبراطوريات القديمة وبعدها دول القرون الوسطى وأخيرا الدولة الحديثة بشكلها المعاصر.
فالدولة إذن من هذا المنظور تقوم سلطتها على تطبيق قوانين الإرادة العامة بإحلال قوانين وضعية تنظم شؤون مجموعتها البشرية سواء في علاقاتها البينية أو في علاقتها بالحاكمين تعوض القوانين الطبيعية التي كانت تسود قبل وجود الدولة وكانت من الأسباب التي دفعت بالمجموعات البشرية إلى الانتظام والتكتل في هذا الإطار المؤسسي.
وقد تطرقت مجموعة من النظريات إلى نشأة الدولة، فكل نظرية تحاول تفسير منطلقات نشأة الدولة بالاعتماد على المرجعيات الفكرية لأصحابها (مطلب أول)
وكما سبقت الإشارة فنشأة الدولة لا تعد الغاية المثلى للمجموعة البشرية المكونة لها بقدر ما كانت الغاية منها ما تقدمه من وظائف وخدمات لهذه المجموعة (مطلب ثاني).
المطلب الأول: نظريات نشأة الدولة
يقترن مفهوم الدولة بالغموض ويظل مجرد فكرة تتسم بالتجرد ما لم يتم التعمق في محاولة فهمه خاصة وفق المقاربة أو المنظور السوسيو سياسي[1] (فقرة أولى) ، كما نجد مقاربة أو منظورا من الوجهة القانونية لنشأة الدولة ويركز بالخصوص على أركان أو المقومات الوجودية لنشأة هذه الأخيرة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: المنظور السوسيو سياسي لنشأة الدولة
قيل بعدة نظريات بهذا الخصوص في نشأة الدولة، خاصة منها النظرية التي ترجع أصل نشأتها إلى العائلة وسميت في الأدبيات السياسية التي تناولت هذا الموضوع بالنظرية العائلية، ثم ظهرت بعدها نظرية أخرى اعتبرت أن العائلة ما هي إلا عنصرا أوليا ضمن مجموعة عناصر شكلت مجتمعة عبر التطور التاريخي نشأة الدولة، وسميت بذلك النظرية التاريخية أو نظرية التطور التاريخي.
النظرية العائلية:
تركز هذه النظرية على أن أصل ومنطلق نشأة الدولة يعود إلى العائلة نظرا لكون الأسرة تشكل الخلية الأولى لوجود البشر في حد ذاته، ثم أن هذه الأسرة قد نمت وتكاثر أفرادها وكونت مجموعة من الأسر وتطور نموها وأصبحت تشكل عشيرة وهذه الأخيرة تحولت إلى قبيلة وبمرور الزمن والوقت تم اتحاد عدة قبائل  فيما بينها فوق مساحة من الأرض تتوفر على مقومات العيش [2] وخضعت لرئيس واحد وشكلت بذلك مدينة وبتجمع عدة مدن تكونت الدولة.
وتعود جذور هذه النظرية إلى أرسطو أحد أعمدة الفكر اليوناني الذي اعتبر الدولة ظاهرة طبيعية تبتدئ جذورها من الأسرة ثم القرية أو العشيرة وبعدها المدينة، باعتبار أن الإنسان ليس بمقدوره العيش بمعزل عن الجماعة.
نظرية: التطور التاريخي
تنبني هذه النظرية على انتقاد أي نظرية تبحث أو تؤسس لأصل نشأة الدولة بناء على عامل واحد أو مرتكز واحد كنظرية التطور العائلي التي تسند أصل نشأة الدولة على العامل العائلي أو الأسري وحده.
وبذلك طبقا لهذه النظرية[3]  فأصل نشأة الدولة يعد ثمرة لصيرورة تاريخية تداخلت و تفاعلت فيها مجموعة من العوامل كتطور الأسرة والعوامل النفسية التي تدفع بالإنسان إلى العيش المشترك في إطار جماعي بأهداف متماثلة.[4]
بالإضافة إلى العامل الاقتصادي أو المحدد الاقتصادي الذي يدفع بالإنسان إلى تلبية متطلباته وتوفير حاجياته من خلال توزيع العمل وتقاسم الأعباء، زيادة على أن الإنسان يكون مضطرا إلى التكتل من أجل درء الاعتداءات والمخاطر التي كان معرضا لها باستمرار خلال حالته الطبيعية الأولى.
كما نجد أن العوامل الدينية [5] والعقائدية وكذلك المعنوية بالنسبة لأصحاب هذه النظرية شكلت بدورها عوامل وحدة ودعامات أساسية ومتينة لتطور العمل الجماعي والشعور بوحدة الانتماء، وذلك خلال فترات طويلة من التطور أفضت إلى تنامي الشعور لدى الأفراد والجماعات بضرورة وأهمية العيش المشترك في أماكن محددة[6] ،وبصيرورة التطور ظهرت فئة حاكمة لهذه الجماعة.
بالنسبة لهذه النظرية يتعذر القول بأهمية عامل محدد دون باقي العوامل أو أن عاملا وحده يشكل محددا رئيسيا في نشأة الدولة بمعزل عن العوامل الأخرى.
وتتميز نظرية التطور التاريخي بالواقعية لذلك نجد أن عددا من الفقهاء قد تبنوا مضامين هذه النظرية.
ومن بين الفقهاء الذين تبنوا هذه النظرية العميد ديكي Duguit[7]هذا الأخير اعتبر الدولة حدثا اجتماعيا انقسمت فيه الجماعة المكونة لها إلى فئتين: فئة حاكمة وفئة محكومة تتمتع الأولى بالقدرة على إصدار الأوامر و الثانية تخضع لها[8] وتنفذها.
بالإضافة إلى هاتين النظريتين وهما البارزتين نجد أن هناك من الفقهاء من يتبني نظريات أخرى في تفسير أصل نشأة الدولة كنظرية العقد الاجتماعي ونظرية القوة.
غير أن هذه النظريات ركزت على كيفية ممارسة السلطة داخل الدولة بعد نشأتها وقيامها وبتنظيم حدود العلاقة وشكلها بين طبقة الحكام والمحكومين أكثر من البحث في الأصول والجذور الأولى المصاحبة والمؤدية لنشأة الدولة.
وإذا كانت هذه بعض النظريات التي ركزت واستندت على المقاربات أو الزاوية السوسيو سياسية في تناول موضوع نشأة الدولة، فان هناك بالمقابل زاوية نظر أو تناول أخرى تركز على الجانب القانوني الصرف في نشاة الدولة من خلال دراسة مدى تواجد مقومات وأركان الدولة، وهذا ما سنحاول التطرق له في الفقرة الموالية.
الفقرة الثانية: المقاربة القانونية لنشأة الدولة
الدولة من خلال المنظور القانوني هي مجموعة من الأفراد تستقر فوق إقليم معين مع التوفر على تنظيم يمنح للجماعة سلطة الأمر في مواجهة الأفراد.
وبذلك فنشأة الدولة تقتضي بالضرورة توفر ثلاثة عناصر أو أركان وجودية
نتطرق لها على الشكل التالي:
الشعب:
يعد الشعب من الأركان الهامة أو المبدئية لنشأة الدولة فوجود شعب يعني مجموعة من الأفراد تستقر فوق إقليم معين ومحدد وتربطها به رابطة قانونية وهي الجنسية.
وبالتالي فالشعب يشمل مجموع الأفراد  المولودين فوق تراب الإقليم أو الأجانب الذين يرتبطون به برابطة الجنسية أي الحاصلين على جنسيته[9].
وتجب الإشارة إلى الاختلاف و التباين بين الشعب والأمة[10] ومن الأسبق منهما وهل بالضرورة أن يشكل الشعب أمة واحدة لتكوين أو نشأة دولة.[11]
الإقليم:
يقتضي وجود الشعب بشكل متلازم وجود إقليم أو نطاق ترابي محدد يقيم عليه دولته ويمارس فوقه نختلف  أنشطته.
ويجب أن يكون الإقليم محددا بحدوده البرية والمائية[12] إذا كانت الدولة ساحلية وتسمى بالمياه الإقليمية، ومجاله الجوي الذي يغطي الحدود البرية والمائية معا وتشكل هذه الحدود مجتمعة نطاق تطبيق سيادة الدولة.
السلطة السياسية:
يتعلق الأمر هنا بالهيئة التي يوكل إليها حق إصدار الأوامر و امتلاك قوة إجبار الجميع على الامتثال لها باحتكارها للعنف المشروع المصاحب لاستمرارية الدولة أي يعد مقوما سياديا للاستمرارية، ولابد للسلطة السياسية من طابع قانوني يصبغ عليها مبدأ الشرعية حتى يتم القبول بها والامتثال لما يصدر عنها.
وبالنسبة لأصل السلطة فقد اختلفت النظريات بهذا الشأن، حيث نجد مثلا نظرية القوة تنبني على أن السلطة نشأت عن طريق القهر وتغلب شخص أو مجموعة أشخاص وفرض إرادتهم على مجموعة بشرية ما.
وبخلاف ذلك نجد نظرية السلطة الأبوية تذهب وتقترب من النظرية العائلية في نشأة الدولة حيث تفرد للزعامة الأبوية مكانة قيادة المجموعة البشرية باعتبارها رابطة اجتماعية.
وعموما تظل السلطة في مفهومها المجرد تفيد القدرة على عمل شيء، كما أن السلطة في مواجهة الآخرين تعني قدرة شخص على أن يحصل من آخر على سلوك معين ما كان يأتيه أو ينفذه من تلقاء نفسه.[13]
وقد تكون السلطة مطلقة يتمتع فيها الحاكم أو الهيئة الحاكمة بسلطات موسعة،
أو سلطة محدودة ومقيدة تستحضر المبدأ العام للشرعية الذي يحكم العلاقة بين فئة الحكام والمحكومين.
وتجب الإشارة إلى أن تجانس الشعب ومساحة الإقليم وطبيعة ممارسة السلطة تتأثر بشكل الدولة خاصة في الدول الحديثة.
حيث نجد الدولة البسيطة الموحدة التي تتركز فيها السلطة بدون تجزئة وقد تعتمد أساليب في إدارة شؤونها  والتخفيف من مركزية السلطة بها، فتعتمد بالإضافة إلى أسلوب المركزية نظام اللاتركيز واللامركزية كأساليب للتنظيم تنبني في جوهرهاعلى فكرة القرب وتقاسم الأعباء.
وبالنسبة للدولة المركبة فقد مرت من شكل تقليدي تمثل في الاتحاد الشخصي حيث تتحد دولتان على مستوى رئاسة الدولة فقط، والاتحاد الفعلي الذي يفيد تحالف دولتين أو أكثر يفضي إلى نشأة دولة برئاسة موحدة مع الحفاظ على السيادة الداخلية لكل دولة.
ثم شكل حديث يجسده الاتحاد الكونفيدرالي يرتكز على أن دولا موحدة ومستقلة تتعاهد و تحدد بمقتضى ذلك هيئة واحدة تتكلف بمهمة التنسيق بين الدول المتعاقدة وتحتفظ كل دولة باستقلالها الداخلي و الخارجي.
والاتحاد الفيدرالي يعد بهذا الشكل أو النموذج من أقوى و أهم أشكال الدول المركبة فاتحاد دولتين أو أكثر يؤدي إلى قيام  أو انبثاق دولة واحدة وبذلك تشكل شعوب الدول المتحدة شعبا واحدا هو شعب دولة الاتحاد وبالتبعية فإقليم الدول المتحدة يتحد بدوره ويؤسس إقليما لدولة الاتحاد وينشأ الاتحاد الفيدرالي وفق الطريقتين التاليتين:
  • اتحاد دول مستقلة وهي الطريقة الشائعة ووفق هذا النموذج   تشكل الاتحاد الأمريكي و السويسري و الألماني والكندي
  • الطرقة الثانية أو المنهج الثاني يتمثل في تفكك دولة موحدة وتحولها إلى دولة اتحادية وبهذا الشكل نشأت دول اتحادية خاصة  في أمريكا اللاتينية المكسيك والبرازيل و الأرجنتين
ويتأسس الاتحاد الفيدرالي على مبدأين:
  • مبدأ الاستقلال الذاتي الذي يبيح للدول المتحدة ممارسة شؤونها على المستوى الداخلي بكل حرية رغم تخليها عن سيادتها و استقلالها الخارجي لصالح دولة الاتحاد
  • مبدأ المشاركة فجميع الدول المتحدة في هذا الشكل تساهم في إدارة شؤون دولة   الاتحاد[14] وبذلك نجد أن كل الدول الاتحادية تعتمد نظام المجلسين.
بعد محاولتنا التعرض ولو باختصار إلى مسالة نشأة وأصل الدولة طبقا لبعض النظريات التي تحدد كل واحدة للدولة أصل نشأتها طبقا لتصور ومنطلقات أصحابها.
إلا أن الدولة وبعد قيامها و نشأتها فان هذه النشأة ليست هي الغاية أو الأصل من قيام الدولة وإنما يظل ما تمارسه من وظائف سواء الدفاعية الأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية هي الغاية المثلى من قيامها، وهذا ما سنحاول التطرق له من خلال المطلب الموالي.
المطلب الثاني: تطور وظائف الدولة
إن البحث في وظائف الدولة أو مهامها يضفي مزيدا من التوضيح على مفهوم الدولة في حد ذاته.
فالفكرة المحورية تتمحور حول أن المجتمع أو الجماعة البشرية أو المنتسبين إلى دولة ما في بدايتها لم تكن الغاية من تأسيسها إلا باعتبارها مؤسسة تعمل على تلبية حاجاتهم باختلافها وتنوعها.
وقد مر مفهوم وظيفة الدولة بمراحل تاريخية متلاحقة، فخلال كل مرحلة أو حقبة في مسار تطور الدولة كانت لها وظائف محددة تبين من جهة الحاجة أو الاختصاص الموكول لسلطتها الحاكمة ومن جهة أخرى طبيعة النظام السياسي السائد بها
وقد تطورت وظائف الدولة كما سبقت الإشارة تبعا لكل حقبة من وظيفة الدولة الحارسة أو الدولة الشرطي أو غيرها من المسميات حسب عدد من الكتابات غير أنها تعبر عن نفس الوظيفة (فقرة أولى)، ثم وظيفة الدولة المنقذة حيث فرضت مجموعة عوامل أن تغير الدولة من وظيفتها تبعا للأسباب أو الظروف القاهرة التي اقتدت تدخل الدولة في عدد من الميادين
ونفس هذه الظروف أو الأسباب ولو بشكل مغاير وخاصة نتيجة الأزمات جعلت من الدولة أن تتحول إلى دولة موجهة ومسيرة (فقرة ثانية).
        الفقرة الأولى: الدولة الحارسة Etat gendarme
تقتضي وتنحصر وظيفة الدولة هنا في مراقبة سير الشؤون العامة ولا تتدخل إلا إذا حتمت ذلك طبيعة ومتطلبات الصالح العام[15]
فمهمتها الأساسية الحفاظ على الأمن العام بين أفراد مجتمعها في الداخل وعلى سلامة تراب إقليمها و الدفاع عنه ضد المخاطر أو الاعتداءات الأجنبية التي يمكن أن يتعرض لها.
ويقتضي الأمر في إطار هذه الوظيفة أن تؤمن الدولة سلامة العلاقات الداخلية بإقامة جهاز للعدل قصد الفصل في النزاعات التي تنشا بين أفراد مجتمعها للحفاظ على استمرارية توازن هذا المجتمع.
كما أن هدف الحفاظ على الأمن والتوازن الداخلي يفرض على الدولة ممارسة أو مباشرة نوع من الدبلوماسية وإقامة تحالفات لتأمين حسن العلاقات مع غيرها من الدول حفاظا على توازنها الداخلي
ويمكن اعتبار أي وظيفة للدولة في ظل الدولة الحارسة خارج هذه الميادين أي حماية وتأمين حدود الوطن ضد كل اعتداء أو عدوان يمكن أن يأتي من الخارج، وكذلك حماية حياة الأفراد وممتلكاتهم والفصل في المنازعات التي قد تنشأ بينهم.
تعسفا و إساءة لاستعمال النفوذ حسب  ما تذهب إليه هذه النظرية التي تستند على المذهب الفردي الحر الذي ينطلق من كون الفرد جوهر عمل الدولة ومهمتها تتحدد في الحفاظ على ممتلكاته وأمنه الداخلي والخارجي، وظلت هذه النظرية في الغالب تؤطر تدخل أو وظيفة الدولة وذلك إلى ما قبل الارهاصات أو البدايات المؤدية للحرب العالمية الأولى.
فرضت مخلفات و أثار الحرب العالمية الأولى تحولا إجباريا في وظيفة الدولة من دولة حارسة محدودة المهام إلى دولة متدخلة أو منقذة، وبعدها دولة موجهة ومؤطرة وخاصة في الوقت الحالي إذ لم يعد  بمقدور الدولة رفع يدها عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
     الفقرة الثانية:الدولة المنقذة والموجهة:
اقتضت المتغيرات والآثار الناجمة عن الحرب العظمى الأولى من الدولة مزاولة اختصاصات ووظائف جديدة خارج  الإطار العام لمهامها السابقة ولم يكن بالإمكان مزاولتها من قبل حيث كانت تمارس من قبل الخواص ولم يكن يسمح لها بممارستها في ظل المذهب الليبرالي الحر القائم بالخصوص على المبادرة الفردية و اقتصار دور الدولة على الأمن الداخلي والخارجي وفض المنازعات التي قد تنجم عن تضارب مصالح أفراد مجتمعها.
غير أن المعطيات الجديدة المترتبة عن معالجة دمار الحرب ستفرض وبالضرورة توسعا في وظيفة الدولة لتضطلع بمسؤوليات ليس بمستطاع الأفراد و المبادرات الخاصة القيام بها كما كان الأمر في السابق
الدولة المنقذة أو دولة العناية: L’état Providence
إن محو مخلفات الحرب الأولى من جانب التي خلفت آثارا سلبية عمت البنيات التحتية و العمرانية وأنتجت ركودا اقتصاديا نتج عن تعثر المبادلات وتوجه أغلب الصناعات نحو الصناعة الحربية ومن الجانب الآخر فقد تأثرت وظيفة الدولة المحايدة اقتصاديا و اجتماعيا في ظل دولة العناية أو الدولة الحارسة بالمذهب الاشتراكي الذي أنتج الثورة البلشفية وانشأ دولة الاتحاد السوفيتي سنة 1917 بناء على توابت غيرت مفهوم الدولة بحد ذاته وخاصة وظائفها
وبناء على هذه المعطيات و الأحداث أصبحت وظيفة الدولة خاصة في محور الدول الغربية تتجاوز وظيفة الشرطي أو الدر كي إلى وظيفة تدخلية لمساعدة  الخواص وانقادهم من الانعكاسات والمخاطر التي أنتجتها ظروف الحرب ومحاولة الحد من أن تنتقل إليها أفكار الثورة البلشفية خاصة في ظل الأوضاع الهشة التي أصبحت تعيش عليها شعوبها والتي ستساهم لا محالة في تبني الأفكار الاشتراكية باعتبارها آنذاك تقدم نموذجا مغايرا من شأنه حل معظم الإشكالات المرتبطة بمعيشة الأفراد والحد من مساوئ المذهب أوالنظام الفردي الذي أفضى في الأخير إلى تحكم القلة التي تملك وسائل الإنتاج في الأغلبية المسخرة لخدمتها  .
وتبعا لذلك أصبحت الدولة مضطرة إلى تقديم الإعانات المادية للإسعاف في المجال الاجتماعي ومساعدة مراكز الصناعة والتجارة لإعادة تأهيلها لتجنيبها من الوقوع في الإفلاس وأصبحت تتحمل جانبا لا يستهان به من المسؤولية المادية في مجالات التربية والتعليم و الصحة والزراعة والتعمير إلى غيرها من المجالات ذات الصلة المرتبطة بتحسين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لساكنتها.
ولمحاولة الحفاظ على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعد تحسن مؤشراتها نتيجة تدخل الدولة بصفتها دولة منقذة فإنها لم تعد إلى وظيفتها أو وضعها السابق كدولة حارسة أو دركية وإنما ستتحول إلى دولة موجهة أو مسيرة أو ضابطة
الدولة الموجهة والمسيرة:L’état orientateur
كما سبقت الإشارة فآثار الحرب الأولى وبعد الأزمات الاقتصادية الدورية التي يعرفها النظام الرأسمالي بالإضافة إلى الحرب الثانية جعل من الدولة خاصة في النموذج الليبرالي التي تستأ تر بالإضافة إلى الأدوار  التقليدية الأمنية و الدفاعية بوظيفة التوجيه والمراقبة وفي دول أخرى تتدخل بطرق التسيير المباشر وهناك من جمعت بين التوجيه والتسيير خاصة بالنسبة لنماذج الدول الاشتراكية.
فالدولة أصبحت تساهم إلى جانب الخواص في المؤسسات الصناعية و التجارية أو تحدث مؤسسات في ميادين متنوعة تقوم بتوجيهها واستغلالها المباشر أو تخول امتياز أو تفويض تدبيرها .
وذلك لاستغلال إمكانياتها في خدمة الجانب الاقتصادي الذي يرتبط بانعكاسات مباشرة بالتبعية على الجانب الاجتماعي.
ويمكن القول أنه بعد فشل الأنظمة الاشتراكية الشمولية خاصة النموذج السوفياتي الذي يعد مهد ومنطلق النظام الاشتراكي القائم على منهج التملك الجماعي لوسائل الإنتاج وإدارة الدولة من  المركز بقيادة الحزب الوحيد، وكانت تقوم على التدخل الكامل للدولة في كل الشؤون والقضايا انطلاقا من المركز، ماعدا النموذج الصيني الذي تبنى تأويلا منقحا ومغايرا أكسبه الاستمرارية والتميز يزاوج بين النمطين: الاشتراكي على المستوى السياسي والرأسمالي القائم على المبادرات الخاصة بالنسبة للجانب الاقتصادي
وبالنظر كذلك للآثار الاجتماعية  السلبية الناجمة عن تبني الليبرالية المطلقة أو ما يسمى في الأدبيات السياسية بالليبرالية المتوحشة أو الغلو الليبرالي جعل الدول الحديثة تأخذ بنموذج وسط يجمع بين محاسن النظامين إذا جاز القول خاصة مع ارتفاع نسبة المد الديمقراطي وبروز جيل جديد من الحقوق والحريات وتحول جل الدول إلى دول مؤسسات تنبني على الحقوق و الواجبات من خلال أنظمة سياسية أصبحت جلها تعتمد المبادئ الديمقراطية التي تقوم على فصل السلط  وتوازنها حيث أصبحت وظيفة الدولة تتحدد خاصة في السلط الثلاث المعهودة التشريعية و القضائية والتنفيذية هذه الأخيرة وفي تناسق مع تطور حاجيات المجتمعات المعاصرة وبالتالي تشعب وتضخم مسؤولياتها تتوفر على إدارة تمارس من خلالها و بواسطتها تصريف وظائفها وبالنظر إلى الدور الهام و المحوري المنوط بهذه الإدارة دفع عدد ا من الفقهاء إلى اعتبارها وظيفة رابعة للدولة[16] إلى جانب الوظائف الثلاث الموكولة لكل من السلطة التشريعية القضائية ثم التنفيذية
وعموما نلاحظ تضخم تدخل الدولة واتساع  وظائفها مع الهامش الواسع للحقوق والحريات كالحق في الشغل وفي الصحة وفي السكن اللائق وفي الأمن وفي العيش الكريم  التي أصبحت تكفلها الاتفاقيات والمواثيق الدولية وتنص عليها دساتير الدول ومنها الدستور المغربي لسنة 2011 .
وبذلك أصبحت الدولة مطالبة ومسؤولة عن توفيرها سواء من خلال تدخلها المباشر أو من خلال أسلوب التدبير المفوض أو بواسطة عقود إدارية أو في إطار شراكات مع الخواص، مع الأخذ بالاعتبار ما ينتج عن هذه العمليات مجتمعة من منازعات أصبحت تبث فيها جهة قضائية مستقلة ومتخصصة تحاول الملائمة بين المصالح العامة التي تمثلها الدولة ومؤسساتها وبين المصالح الخاصة للأفراد.
في الأخير لا بد من الإشارة بوضوح تام إلى الاختلاف القائم بين الدول المتقدمة التي استطاعت تحقيق مستويات ملحوظة من التقدم والتطور في مستويات العيش والدخل الفردي لمواطنيها وفي بنياتها التحتية وفي نماذجها التنموية.
وبين الدول النامية التي لازالت بين المد والجزر في تحسين أدائها السياسي والاقتصادي وبالتالي جودة وكفاية الخدمات التي تقدمها لمواطنيها أو رعاياها بحسب الأحوال وفي حكامة منظومتها السياسية والاقتصادية .
تأتي الإشارة إلى هذا التباين من أجل التدليل على درجة تدخل الدولة وتوسع وظائفها بين النموذجين.
فمن نافلة القول أن الدولة النامية يجب أن تتوسع وظائفها مرحليا وأن تتسم تدخلاتها بالعمق والمواكبة مادامت أنها ملزمة بتجاوز اكراهات البناء التنموي الشامل وتحقيق الكفايات المرتبطة بتحسين مؤشرات العيش الكريم لمواطنيها، فهي ملزمة بنهج السياسات والخطط الكفيلة بالرفع من أدائها الاقتصادي من خلال تحسين  وثيرة معدلات النمو التي تتأتي باتباع مخططات تهيئة البنيات التحتية والتجهيزات الكفيلة بجدب الاستثمار خاص الأجنبي وتأهيل الكفاءات وتعبئة العقارات وملائمة التشريعات ودراسة التشجيعات الضريبية إلى غيرها من الإجراءات الداعمة لبرامجها التنموية.
في مقابل ذلك فالدول المتقدمة مع تجاوز الوظائف التقليدية المتعلقة بالأمن الداخلي والدفاع الخارجي وفض المنازعات  كوظائف أصيلة فوظائفها لا يمكن مقارنتها  بمستوى الوظائف المطلوبة من الدول النامية مادام أن السير المؤسساتي بالصنف الأول ينبني على المزاوجة بين تدخل الدولة والخواص معا في إطار علاقة تفاعلية تؤدي إلى تقاسم الأدوار والمسؤوليات ضمن مقتضيات تزاوج بين الاحترام المطلوب بين الحقوق والواجبات.
1- بوطالب (عبد الهادي)،المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية،الجزء الأول،دار الكتاب، الدار البيضاء،1979، ص58.
2 – سليمان(عصام)، مدخل إلى علم السياسة، دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان،  1989،ص 187.
  • تسمى هذه النظرية كذلك لدى عدد من مفكري العلوم الاجتماعية بالنظرية التطورية المفسرة لنشأة الدولة [3]
4- للمزيد من التوضيح، راجع باركر(أرنست)،النظرية السياسية عند اليونان، الجزء الأول، ترجمة لويس اسكندر، مؤسسة سجل العرب،القاهرة، مصر،1966،ص13.
[5] – ظريف(محمد)، القانون الدستوري ، مدخل لدراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية،مطبعة النجاح الجديدة،الدار البيضاء، 1998، ص 44.
  • زايد الطيب (مولود)، علم الاجتماع السياسي،دار الكتاب الوطنية، طرابلس، ليبيا، 2007،ص 29.[6]
[7] – للإشارة عاش العميد ليون ديكيLéon Duguit  خلال الفترة الممتدة بين 1859-1928 وكان من أكبر فقهاء العلوم القانونية بفرنسا، مما أهله لتولى عمادة كلية الحقوق بجامعة بوردو لمدة طويلة، وأغني الخزانة العلمية الفرنسية بعدد من المؤلفات القيمة شكلت مرجعا في العلوم القانونية خارج التراب الفرنسي…
[8] – L Duguit, Traité de droit constitutionnel, tome II, Paris,1927,P655.
9- وهم الأجانب الذين لا تربطهم بالإقليم رابطة الجنسية التي تكتسب بالانتماء أو الولادة، غير أن استقرارهم بتراب أو إقليم دولة ما لمدة معينة يخولهم بناء على طلبهم وطبقا لقوانين الدولة المعنية اكتساب جنسيتها، وبذلك يتمتعون بنفس الحقوق والواجبات المخولة لمواطني الدولة الأصليين.
  • للمزيد من التوضيح، راجع:                                                                                                                                                                                                                                                                                          G.Burdeau, traité de sience  Politique, Tome II, L.E.D.J,1967,P 115. -[10]
[11] – راجع للتوضيح بهذا الخصوص، بوطالب (عبد الهادي)،المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية،مرجع سبق ذكره، ص ص58-63.
 [12]- في حدود 12 ميلا بحريا ويساوي الميل 1852 مترا.
راجع لمزيد من التوضيح بخصوص هذه النقطة، ضريف (محمد)،القانون الدستوري، مرجع سبق ذكره، ص ص 47-48.
  • جفري(سعيد)، رجل السلطة، مطبعة الرشاد، سطات، 2014، ص 12. [13]
[14]- لمزيد من التفصيل بخصوص أشكال الدولة، راجع كامل ليلة (محمد)، المبادئ الدستورية العامة والنظم السياسية، دار الفكر العربي، بيروت، 1959.
[15] – بوطالب (عبد الهادي)، المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مرجع سبق ذكره، ص 115.
[16] – للمزيد من التوضيح، راجع، بوطالب (عبد الهادي)، المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مرجع سبق ذكره، ص 144 .

المنشورات ذات الصلة

هذا المحتوى محمي
Scroll to Top