يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم

يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم
بقلم الدكتور عبد الواحد القريشي
انقطع إبراهيم عن الدراسة ولم يتح له متابعتها بالرغم من حبه الشديد لها ورغبته الجامحة وطموحه الكبير في أن يصير موظفا بإحدى الإدارات العمومية ، أو على الأقل أن يشغل منصب أبيه بعد تقاعده .
لم يتجاوز إبراهيم مستوى الخامسة ابتدائي مما جعله يعدل طموحه ويفكر بواقعية فمن حلم بأحد المناصب السامية صار يفكر في أن يشتغل عونا مقنعا نفسه بأنه وان كان الراتب الشهري لهذا المنصب زهيدا فانه يتناسب وبنيته الجسدية النحيلة التي لا تقوى على أعمال البناء وتمارا.
فكر إبراهيم في أن ينخرط بجمعية للمعطلين عساه يحقق مبتغاه ، غير أن هذه الأخيرة فرضت عليه الحضور مرتين أسبوعيا على الأقل في مقر الاعتصام بالإضافة إلى انه رتب في المرتبة الأخيرة حسب نظامها الداخلي ، وهو ما لم يرقه وأصر على أن يحقق طموحه في غير هذا المسار.
قصد إبراهيم أكثر من وجهة ولم يثن عزيمته لا كثرة الردود السلبية ولا تلك الردود المهينة بل كان ملحا في طلبه مؤمنا بقضيته إلى أن تم توظيفه كعون بالمحكمة .
يذكر إبراهيم اليوم الأول من حياته المهنية يوم أن التحق بالمحكمة ، كلمات مؤثرة وجهها إليه رئيس المصلحة : تقدم يا إبراهيم اليوم أصبحت تمثل جزء من المخزن ، مد إليه بذلة الأعوان قائلا ها أنت تنظر إليها يا إبراهيم إنها بذلة مخزنية أنيقة حافظ على أناقتها ، مد إبراهيم يده إليها وقبل أن يلمسها باغته الرئيس وبأعلى صوته : لا تجعل يدك السفلى أبدا ، سلمه القميص ثم السروال وقال له : اجعل له حزاما جيدا وشده دوما بإحكام.
ابتهج إبراهيم وانصرف ولم يفكر آنذاك إلا في شيء وحيد : انه الحداء الملائم لبذلته الجديدة وتساءل منذ اليوم الأول لعمله الم تفكر الوزارة في هذا الأمر ؟
توالت الأيام وإبراهيم مصر على أن يبقي بذلته أنيقة وظل ينحني على الملفات والمحاضر ليرفعها ويداه إلى الأعلى دوما إلى أن هم أحد الوافدين إلى المحكمة بتسليمه دراهم معدودة ، أراد أن يتسلمها فإذا بقول رئيس المصلحة : لا تجعل يدك السفلى أبدا ، تذكرها وكانت اللحظة الأولى التي يدرك فيها تلك الكلمات ، كانت اللحظة الأولى التي أدرك فيها معنى أن تكون البذلة أنيقة وان تكون الأيادي إلى الأعلى …
رجع إبراهيم خطوات إلى الوراء وبلا كلمات ترك صاحبه واقفا ثم انصرف ، بدأ جولته بمكاتب الموظفين والمسؤولين بإدارات عديدة كان يبصر دوما أنهم لا يرتدون إلا الملابس الأنيقة والعلامات المميزة ، لكن رأي إبراهيم اليوم قد تغير أصبحت لإبراهيم معايير جديدة في تقييم الأناقة .
تجول إبراهيم بإدارات عديدة و أدرك أن فئة قليلة من حافظت على البذلة المخزنية ، تجول بمكاتب المحكمة وردهاتها ووقف أيضا على أياد كثيرة امتدت إلى أسفل .
مد يده إلى جانبه فوجد أنه قد نسي الحزام وأراد أن يواري موضعه كعادته ،لكنه وبابتسامة عريضة أدرك أن معنى الحزام شيء آخر .
تجول مجددا بإدارات عديدة تجول بردهات المحكمة وأبصر الحالة المتردية لأحزمة كثيرة.
انتبه إبراهيم إلى نفسه إلى بذلته إلى سرواله إلى حزامه ،انتبه إلى بذلة الرئيس إلى يد الرئيس إلى سروال الرئيس إلى حزامه ،و وجد أن هناك تشابها ففرح كثيرا فتساءل مبتسما أو لا يصلح إبراهيم ليكون رئيسا؟
قصد إبراهيم مكتب الرئيس ليخبره بأنه قد فهم استأذنه بالدخول إلى مكتبه فأذن له ، كانت مفاجأته كبيرة عندما بادره الرئيس بالعناق قائلا : سوف افتقدك يا إبراهيم لقد تلقيت خبر نقلي إلى مركز القاضي المقيم .
عانق إبراهيم رئيسه مدركا أن مكانته كانت متميزة لدى الرئيس ، ولذلك عاهد نفسه أن يظل أنيقا ألا تمتد يده إلى أسفل أن يظل حزامه جيدا ، وهو ينصرف أبصر لوحة معلقة فوق باب الرئيس تحمل الآية الكريمة : ”يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”
أصبح لإبراهيم منطق جديد أصبح ينظر إلى جوهر الأمور،ولم يعد يرقب حضور الرئيس ولا غيره ، أخلص في أداء عمله وحافظ على أناقته ، فمرت الشهور والأعوام وإبراهيم على حاله ،إخلاص في العمل ودوما بابتسامة عريضة :” الله يجيبنا في الصواب …الله يكمل السربيس على خير …وإذا اقتضت الضرورة : الله يقنعنا خذ فلوسك عندك …”
عاش إبراهيم براتبه الذي لم ينتفخ إلا قليلا لكنه في نظر إبراهيم راتب كاف جدا عاش واقعه ،رسم أهدافه بدقة فحققها لم يتقدم يوما إلى بنك للاقتراض ، آمن بقضيته أن يحسن تربية أبنائه وان يساعدهم على شق طريقهم ، وكان ينتظر نهاية كل أسبوع زيارة بنته شيماء المهندسة الزراعية وابنه علي الطبيب الرئيس ، ولا شيء أغلى عنده من هذه الجلسة الأسبوعية.
ما أعجبني أكثر في قصة حبيبنا إبراهيم انه لم يجعل من حدث تقاعده شهادة بالوفاة او نقطة نهاية لأهدافه بل جعله نقطة البداية وقرر أن يحفظ كتاب الله العزيز اشترى لوحا خشبيا التحق بالكتاب وانطلق بكل عزيمة مستحضرا أمنية والدته التي أحبت أن يكون فقيها ، وما كان إلا أن أصبح حافظا لكتاب الله العزيز وواعظا متطوعا بالمجلس العلمي .
صراحة أعجبت بقصة حبيبنا إبراهيم وتمنيت أن يطلع عليها كل موظف عمومي كل مواطن كل إنسان …رحم الله حبيبنا إبراهيم واسكنه فسيح جناته .
الدكتور عبد الواحد القريشي

المنشورات ذات الصلة

هذا المحتوى محمي
Scroll to Top